شاهدت منذ عدة أيام في إحدى القنوات الفضائية فيلم قنديل أم هاشم المأخوذ عن قصة الأديب المصري الكبير يحيى حقي و الذي أنتجته السينما المصرية في سنة 1968 و بالرغم من مرور أكثر من أربعة عقود على عرض هذا الفيلم إلا أنه لا يزال تحفة فنية رائعة تجذب انتباه المشاهد المثقف حتى وقتنا هذا و ذلك لأسباب كثيرة من أهمها روعة العمل الأدبي نفسه- الذي يحمل نفس الاسم- و مصداقيته و أصالته و أبعاده الجمالية و الفلسفية العميقة حيث استطاع الكاتب تبسيط تلك المفاهيم العميقة المعقدة وتوصيلها للقارىء بأسلوب جذاب فالقصة فيها أكثر من بعد فلسفي كما أنها تلقي الضوء بشكل مباشر و غير مباشر على قضايا مصيرية في غاية الأهمية كالتفاعل و الحوار بين الحضارات في الشرق و الغرب فبطل القصة طبيب عيون سافر إلى ألمانيا للدراسة و البحث العلمي و بعد حصوله على درجته العلمية عاد إلى أرض الوطن حيث يعيش في إحدى المناطق الشعبية بالقرب من مسجد السيدة زينب لتحقيق ذاته من خلال تطبيق و نقل ما تعلمه من نظريات علمية و تجريديات في بلاد الفرنجة إلى تربة مصرية و بيئة غاية في الشعبية و المحلية فأدى ذلك إلى صراعات نفسية و أزمات و تحديات بالنسبة للبطل نتيجة للتناقض و الاختلاف الواضح بين الثقافتين من ناحية و صعوبة تحويل النظريات المجردة الموجودة بالكتب و ترجمتها إلى سلوكيات و ممارسات حية من لحم و دم من ناحية أخرى.
عندما تتصادم الحضارات
Clash of Civilizations
تأثر الغرب بكل من التراث الثقافي اليوناني و الحضارة الرومانية القديمة مما أدى إلى هيمنة الفكر المادي العلماني على ثقافتهم الباردة فبالرغم من تقدهم العلمي الكنولوجي المذهل و الذي شهده القرن الماضي متمثلا في اختراعاتهم الفذة التي فاقت كل الخيال كالطائرات و الصواريخ و المركبات الفضائية التي تحلق في السماء و تنطلق من كوكب الأرض إلى الفضاء الخارجي و الحواسب الألية و الأقمار الصناعية التي جعلت الكون الكبير كما لو كان قرية صغيرة فضلا عن تقدهم في العلوم الأخرى كالطب و العمارة و الهندسة و غيرها من العلوم النافعة للبشرية إلا أن هذا التقدم المذهل الفذ في العلوم المادية لم يواكبه تقدم مماثل في الروحانيات و العلوم الأنسانية فالإنسان الحديث استطاع بحق اكتشاف أسرار الكون و ظلّ عاجزا عن اكتشاف أسرار نفسه و أكبر دليل على ذلك انتهاكات حقوق الإنسان و انتشار الجريمة من قتل و عنف و سرقة و شذوذ و فاحشة فضلا عن الأمراض النفسية التي تؤدي إلى القلق و الاكتئاب و الهوس و الجنون و الانتحار و ذلك يحدث في أكثر المجتمعات الغربية تقدما و التي يتمتع الفرد فيها بالرفاهية و مستوى معيشة مرتفع و ظلّت أبحاثهم العلمية بمناهجها التجريبية عاجزة عن حل كل هذه المشكلات و لم تستطع مواجهة كل هذه التحديات الشائكة التي تهدد حياتهم لما في هذه المناهج التجريبية من قصور في التصور المنطقي السليم الرشيد و التي تحجب عنهم رؤية الحقيقة التي اكتشفها بعض الفلاسفة و المفكرين مثل الفيلسوف اليوناني الشهير أفلاطون و هي حقيقة العالم الأخر الذي أطلق عليه أفلاطون عالم الغيب و وصفه بأنه هو العالم الحقيقي الخالد فاتفقت رؤية هذا الفيلسوف الكبير مع ما ورد في الكثير من أيات القران الكريم كالأيات الأولى في سورة البقرة و قوله تعالى ” ألم(1) ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين(2) الذين يؤمنون بالغيب و يقيمون الصلاة و مما رزقنهم ينفقون(3) و الذين يؤمنون بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك و بالأخرة هم يوقنون(4)” بينما لا يؤمن الفكر الغربي إلا بالظواهر المادية الملموسة المرئية فقط و من هنا كانت أزمة الحضارة الغربية أنّها ثقافة بلا روح لاتعترف بالمعجزات لأنّها لا تتوافق مع منهجها و القوانين و النظريات المادية العلمية التي قامت عليها فلم تستطع تفسير معجزات الأنبياء على سبيل المثال و التي ذكرها القرأن و وثقت في سطوره فمن الصعب على هؤلاء تصديق رواية سيدنا موسى حين تحولت عصاه إلى ثعبان كبير مخيف و كيف تحول الماء إلى يابس حتى يستطيع الهروب من بطش فرعون الذي غرق و هو يطارد موسى لأنّ اليابس عاد مرّة أخرى إلى أصله فأدرك فرعون الغرق و لقى حتفه و باتت هذه النهاية عبرة و مثل لمن يعتبر فضلا عن معجزة رحلتي الإسراء و المعراج و أحلام كل من سيدنا يوسف و أبيه في سورة يوسف و التي صورت الحقيقة و كشفت عن بعض الأحداث قبل وقوعها و ذلك بشكل رمزي من خلال لوحات فنية تشبه لوحات الفن التجريدي التشكيلي و قدرة سيدنا عيسى الخارقة التي وهبها الله إياها على إحياء الموتى فمن من هؤلاء العلمانيين الماديين استطاع مهما بلغت درجة علمه اكتشاف حقيقة الروح التي ستظل سرا غامضا من أسرار الكون إلى وقت أن تقوم الساعة؟
التصور الوظيفي للنظريات و القوانين التجريدية
The Functional Practical Aspect of Abstract Ideas
تحتاج عملية تطبيق النظريات و القوانين التجريدية إلى مهارة و خبرة و تدريب فتعلم قوانين الحركة و نظريات تعلم قيادة السيارة لا تؤهل المتعلم لقيادة السيارة لأنّه يحتاج بالطبع إلى ممارسة عملية و تدريب مستمر حتى يستطيع القيام بهذه المهمة كما أنّه من الصعب أيضا على رجل القانون تطبيق القانون على القضايا المختلفة دون نوع من التصور و الحكمة و الخبرة و ذلك لأن القانون مجرد فكرة أو نظرية تتناول موضوعا ما بشكل عام بينما يتعامل رجل القانون مع عدة قضايا مرتبطة بنفس الموضوع و لكن كل حالة أو قضية لها خصائصها التي تميزها عن القضية الأخرى مما يجعل مهمة رجل القانون في صناعة القرار مهمة شائكة في الكثير من الأحيان خاصة عندما يعاقب القانون المذنبين الذين يدفعهم المجتمع و النظام السياسي الفاسد إلى الجريمة فيضطر السارق إلى السرقة بسبب الجوع مثلا و يضطر الراشي للرشوة بسبب مرتبة الهزيل الضئيل وكذلك يحتاج الطبيب الذي قرأ العديد من المراجع الطبية و قام بعمل الأبحاث العلمية الناجحة إلى التدريب حتى يستطيع ممارسة و توظيف ما تعلمه من نظريات على أرض الواقع بنجاح و رجال الدين الذي حفظوا الأيات القرانية العظيمة و قرأوا المراجع و كتب الفقه و الشريعة لا بد لهم من قدرات عقلية فذة و موهبة ربانية حتى يستطيعوا تطبيق المنهج الرباني القويم الذي يصلح لكل زمان و مكان و ممارسة ما ورد في القرأن و السنّة بشكل يتناسب مع متغيرات العصر الحديث و ذلك لصناعة حضارة إنسانية عريقة و إقامة دولة دينية قوية دون تخلف أو قصور في فهم الدين و لا بد من الإشارة هنا إلى نقطة هامة جدا فيما يخص مشكلة من أهم مشكلات التعليم و هي اعتماد المعلم و القائمين على العملية التعلمية بصفة عامة على طريقة التلقين وحدها و التركيز على الجانب النظري المعرفي فقط دون الاهتمام الكافي بتنمية مهارات التفكير عند المتعلم من خلال المهام و الأنشطة التعليمية المتنوعة الجذابة التي تساعده على الفهم الواعي العميق و النتيجة الحفظ الصم و عدم قدرة المتعلم على توظيف ما تعلمه من معارف و معلومات نظرية على أرض الواقع و تعطيل القدرات الإبداعية عند الدارسين و التي تؤدي بدورها إلى صناعة الحضارات الإنسانية العظيمة.