قصة قصيرة بقلم الكاتب : سعيد رمضان محمد
دقت الساعة الخامسة عصرا فغادرت بيتي و ذهبت لوسط البلد كما تعودت لشراء ملابس و أشياء أخرى من المحلات والأسواق التجارية الموجودة هناك و أتاح لي هذا المشوار فرصة المشي و التجول في شوارع المدينة و الاستمتاع بمنظر الزهور في محلات بيع الزهور و منظر الأشجار الخضراء الكائنة على الأرصفة و لا أدري لماذا لا يزرعون المزيد من الأزهار و الأشجار من مختلف الأنواع و الألوان في كل مكان فيصبح عالمنا كالبستان الكبير و دخلت أكثر من محل و لم يسرني وقتها ارتفاع أسعار بعض السلع بالرغم من تخفيضات الأوكازيون التي يتحدثون عنها في هذا الوقت من العام و هكذا يضطر الموظفون دائما لعمل ميزانية و حسابات دقيقة لشراءأي شىء بسيط حتى و إن كان من ضروريات حياتهم و مضى الوقت سريعا و دخل وقت الغروب و مشيت إلى محطة الأتوبيس و في يدي عدة أكياس و وقفت هناك أنتظر قدوم الأتوبيس و لم يشغلني وقتها طول الانتظار و تأخر الأتوبيس حيث كنت مستمتعا بالهدوء و السكون كما جذبني منظر غروب الشمس و لونها البرتقالي الساحر الداكن الذي يذكّرني بأيام جميلة قضيتها في هذا المكان الذي يعرفني جيدا كما أعرفه معرفة عمرها أكثر من عشرين عام مضت كما الحلم سريعة كالثواني أيام اللهو و الجنون و حب المغامرة و تذكّرت كل شىء فقد تعودت الوقوف على تلك المحطة كل يوم وقت أن كنت طالبا في الجامعة و ذلك بعد التجول في شوارع المدينة المعروفة بطولها و عرضها والتي لم تتغير معالمها كثيرا كما لم تتغير معالم المحطة و جاء الأتوبيس بعد فترة و جلست كعادتي بجوار النافذة و بدأ
الأتوبيس رحلته و لفت نظري الأضواء الصفراء الخافتة داخل العربة و التي تشبه ضوء القناديل المصفوفة الساطعة أمامي في وسط الشارع تحت سماء مدينتي الحبيبة و تردد في أذني كلمات الأغنية الشهيرة” ضي القناديل” خاصة عندما يقول: “يا شارع الحنين ضيّعنا الهوى فاتتنا السنين أنا و أنت سوا” فهذه الكلمات تعبر عن لسان حالي فقد حاولت الزواج عدة مرّات و أخفقت في تحقيق تلك الرغبة فما أصعب الزواج في هذه المدينة مدينة الأحلام و الأماني الضائعة حيث تستطيع الأرانب و الفئران الحصول على المأوى و السكن و لا يستطيع الإنسان و لم يجني الفقراء و من هم تحت خط الفقر سوى المعاناة و الوهم حقا لم يحصد هؤلاء المساكين سوى الاستماع إلى شعارات و عبارات رنّانّة يتشدقون بها في التلفاز و الصحف عن الانفتاح و الخصصة و التجارة حرة و غيرها و لا أدري إذا كنت قد أخطأت عندما قبلت العمل كموظف فمن يدري ربما كان من الأفضل لي العمل في التجارة مثلا والعمل الحر أو حتى في شركة من شركات الإستمثار حتي أجد مسكن بسيط للوقاية من حر الصيف و برودة ليالي الشتاء و أمطارها و قسوتها فلم أتمنى أكثر من أحلام مشروعة و أشياء بسيطة و حاجات أساسية ضرورية من مسكن و مأكل و مشرب فضلا عن حاجتي إلى الحب و شىء من الرومانسية و الخيال فكم من قصص الحب ضاعت في وقت الغروب و لم ينل أبطال الحكاية سوى الدموع و الندم و الذكريات الجميلة و انتبهت على صوت سيدة تصرخ في وجه السائق لأنه توقف قليلا عند إحدى المحطات و أغلق الباب فلم تستطع النزول من العربة فصاح هو الأخر غاضبا و أجابها- بشىء من السخرية- قائلا: ” قسمتك و نصيبك” مما جعلني أسأل نفسي عن القدر و القسمة و النصيب الذي يجعل حياتنا مثل هذه العربة بما فيها من لقاء و فراق و وداع و دموع و وجوه ضاحكة و وجوه باكية و أخرى غاضبة عابثة و لحظة بداية و لحظة نهاية و بينهما لحظات ترقب و انتظار نتحرك داخلها من مكان إلى مكان و من محطة إلى أخرى و تمضي بنا رحلة العمر في شوارع و طرق مختلفة يمينا و يسارا دون أدنى تدخل أو اختيار منّا و بينما أنا مستغرقا في هذه الأفكار تصاحبني تلك المشاهد المتعاقبة المتتابعة التي أراها أمامي من خلال نافذة العربة كأنّها صندوق الدنيا نادي المنادي قائلا: ” حمد الله على سلامتكم.. وصلنا المحطة الأخيرة.” و توقفت المركبة و غادر الركّاب الحافلة كالجنين في لحظة الميلاد أخرجته الطبيعة من محطة لتمضي به الأيام والسنون إلى محطات أخرى على طريق اسمه الحياة.
شي جميل تشكر عليه بالتوفيق