روابي البناي
تطبيقا لمقولة «مع الخيل يا شقرا» قررت أنا وصديقة لي أن نقتحم عالم الأعمال الخاصة، ونؤسس لنا مشروعا صغيرا نفجر فيه طاقاتنا ومواهبنا المكبوتة التي، من وجهة نظرنا، سوف تحدث انقلابا واسعا في عالم الأعمال والمشاريع الخاصة (أدري راح تقولون الثقة الزايدة ما لها داعي)، التي أصبحت هبة مصاحبة لبنات وشباب الكويت، أي الذي ليس عنده مشروع أو صنعة يصبح «موصج» هذه الأيام. وحتى نصبح «صج» قررنا أن نفتح مشروعنا الصغير.
وفعلا وضعنا دراسة جدوى للمشروع، ودوّنّا كافة المستلزمات الخاصة به، واخترنا المكان واصبح هذا الحلم جاهزا للتطبيق على أرض الواقع. ولله الحمد أنني أعمل في مكان يتيح لي أن أسجل المشروع باسمي، لكن بشروط وضوابط واستخراج كم هائل من الأوراق. لذلك أوكلت هذه المهمة للمندوب الذي خسر من وزنه في ظرف خمسة أيام الكثير من الكيلوغرامات، لدرجة أنني سألته عن سر هذه الرشاقة السريعة، التي طغت على سر الدكتور السحري عبدالله المطوع في إرجاع الأجسام المكتنزة إلى أجسام رشيقة. فقال لي: الحل بسيط، فقط اذهبي إلى مجمع الوزارات لتخليص معاملات، وسوف تضعين يديك على هذا المفعول السحري.
قال لي المندوب هذا الكلام بنبرة تعلوها الصرامة، لأنه بعد ذهاب وإياب لهذا الصرح الأبيض تم إبلاغه بأنه يتعين على صاحبة العلاقة التواجد لإتمام المعاملة.
لا اخفي عليك عزيزي القارئ مدى ضيق الخلق والصدر الذي اعتراني عندما سمعت هذا الخبر، لأنني لا أحب المراجعات الحكومية ولا الدخول في معمعتها. لكن من أجل تحقيق الهدف والحلم قررت الذهاب لمجمع الوزارات، هذا المجمع الذي يعتبر البوتقة التي تصب فيها كل معاملات المواطنين والمقيمين، لاحتوائه على كافة وزارات الدولة ووزرائها ووكلائها الذين لا زالوا «متسمتين» على الكراسي، كأن الكويت خلت من الشباب الواعد الطموح الذي يستطيع أن «يترس الكرسي» وليس «الكرسي اللي يترسه». ولكن الواحد شقول «عمك اصمخ».
حتى لا أطيل عليكم تابعوا معي أحداث رحلتي المثيرة مع البشر الأكثر إثارة، العاملين في هذا الفندق ذي النجمة الواحدة، أقصد هذا المجمع الأبيض المدعو بمجمع الوزارات.
المشهد الأول:
سيارة فرعون في شوارع الكويت
عقارب الساعة تقترب من الثامنة صباحا يوم الأربعاء الموافق 28 يوليو 2010. اللاهوب الكويتي الفريد من نوعه بدأ بفرض سيطرته على مرتادي الشارع، الشمس الحنانية تمكنت من تسليط أشعتها داخل السيارات، الوضع العام للناس «ما لهم خلق» كأنهم في مشهد تجريبي لصبيحة أول يوم في شهر رمضان المبارك، يعني يا ويلك يا سواد ليلك لو فكرت أن تبتسم في وجه احد، أو سولت لك نفسك بأن تتحول من الحارة اليسرى إلى الحارة اليمنى في الشارع، لأنه ستحدث كارثة.
طبعا نحن في الكويت مميزون في كل شيء، ومن الأشياء التي حبانا بها الله الزحمة على الخط السريع، وممارسة البعض لهوايتهم العجيبة بالسير على خط الطوارئ وترك الحصى يتطاير على السيارات ويكسر «الجام». لذا لم يكن مستغربا أن يكون الخط السريع الذي يسبق دخولنا للإشارة المؤدية إلى مجمع الوزارات واقفا والزحمة شديدة، دلالة على وجود حادث كبير.
وبعد انتظار طويل جاءنا الفرج، واقتربنا ببطء من سبب الربكة المرورية، والذي لم يكن ولله الحمد حادثا، بل سيارة متهالكة تعود إلى أحد الوافدين، وترجع ملكيتها إلى «سنة الطفحة»، تقف في منتصف الطريق و«حاطه ريل بالسما وريل بالأرض»، لا تتزحزح عن منتصف الطريق. طبعا خرج هذا الوافد صبيحة هذا اليوم من ذنوبه كما ولدته أمه، والسبب كثرة السب والدعاوى التي انهالت عليه من مرتادي الطريق الذين تعطلوا بسبب تعنت سيارته.
وبعد أقل من ربع ساعة كنت وصديقتي نقف في المواقف الخارجية لهذا المجمع الأبيض، ونتأهب للنزول والابتسامة تعلو محيّانا كوننا سوف ننجز أولى مراحل مشروعنا الحلم.
المشهد الثاني:
بطاط ولبنة برقان.. ومشكل بدر البدور
كانت الساعة تلامس التاسعة إلا عشر دقائق حينما دخلت القسم المعني بتخليص معاملتي. الهدوء والسكينة يخيمان على المكان، المكاتب خالية، الممرات مظلمة، وذلك تماشيا مع سياسة الترشيد في البلد. لا يوجد غير «زهيوي» صغير يتمشى من مكتب إلى مكتب من دون سداد ولا رداد.
قمت وصديقتي بجولة على المكاتب لعل وعسى نجد اثر إنسان نكلمه حتى نسأله عن كيفية تخليص هذه المعاملة، لكن ما كل ما يتمناه المرء يدركه. لكن كما قال سبحانه وتعالى في كتابه العزيز «إن بعد العسر يسرا»، فجاءنا اليسر بعد العسر عندما لمحت من بعيد ظلا متحركا.
انقضضنا نحوه كما ينقض الأسد على فريسته وهو يتضور جوعا.. فوجدنا أمامنا عامل النظافة المسكين الذي اخترع مني ومن صديقتي، ومن الطريقة التي انقضضنا عليه فيها بالأسئلة! في بداية الأمر لم يجب، وتخيل لي انه «أطرم» لكن اتضح فيما بعد بأنه جديد على المهنة، إلى درجة أنه لم يملك بعد مفتاح الثروة البنغالية في الكويت وهي جملة «السلام عليكم بابا.. السلام عليكم ماما»، فتفاهمت معه على طريقة أفلام الراحل «شارلي شابلن» الصامتة.
سألته عن السادة الموظفين فأخذ يشير إلى بطنه، ويغمض عينيه. وبعد تفكير وتمحيص توصلنا إلي فك الشيفرة بأن نصف الموظفين لا زالوا يشخرون في بيوتهم، والنصف الثاني «يتريقون». وبعد شد وجذب و«دهن سير» أخبرني عن الغرفة المأهولة بالموظفين المشغولين بترس كروشهم، والتي كانت مقفلة، وتخرج منها أصوات الموظفات العالية وضحكاتهن.
هممت نحو الباب وطرقته، وبعد طول انتظار على الباب فتحت لي إحدى الموظفات التي هالني منظرها المأساوي، وعلى الفور استعذت بالله من هول المنظر وسوء المنقلب. فهذه الموظفة كان الشر يتطاير من عينيها، وآثار الطحينة التي كانت تملأ الصمونة على فمها، ودهن الفلافل على يدها. وبكل جرأة ونفس يعلوها الشر قالت لي: نعم.. خير!
فقلت لها: خير بوجهج طال عمرج بس عندي معاملة أحتاج أخلصها.
الموظفة: مو شايفتنا نتريق، يعني الواحد ما ياكل.. وبعدين انت. شيايبج من الصبح؟
فبادرتها وكل ما بي يرتجف ذعرا وخوفا: بألف عافية، لكن لطفا وليس أمرا وعلشان صمونة البطاط واللبنة اللي قاعده تنطرج على السفرة الممدودة بالأرض واللي متربعين حولها الموظفات، أنا بس احتاج اخلص المعاملة علشان اجازتي تنتهي باجر. وبعدين ما راح اقدر اطلع من الدوام علشان اخلص معاملاتي، تدرين احنا دوامنا مو مثلكم عايشين نعيم. ( طبعا كل هذا الحديث كنت أقوله لنفسي وما فيني خير لو أتجرأ أني أحرك برطم عن برطم أمام هذا الكائن البشري القابع أمامي). فقالت: خلاص روحي شوفي وين ملفج وطلعيه على ما نخلص.
وأقفلت الباب في وجهي.
وبعد سؤال عن مكان الملفات اتضح انه في السرداب عند «حسني» مسؤول الملفات. وذهبنا إلى العم حسني لاستخراج الملف. وبعد السؤال عنه جاءنا بقسمات وجهه التي تدل على انه في العقد الخامس من العمر، ووجهه العبوس الذي يحمل شنبا صغيرا من فصيلة شنب هتلر، ونظارات «قاع البطل» التي يرتديها ودشداشته التي اكبر منه. فقلت له: صباح الخير أستاذ حسني، لو سمحت أنا احتاج إلى استخراج ملفي لاستكمال باقي الإجراءات.
أجابني من دون أن ينظر إلى وجهي: آسف عندنا جرد اليوم وما قدرش اطلع الملفات.
رجوته قائلة: ربنا يخليلك المدام وتيته وطنط وكل حاجة لك بالدنيا. انا احتاج الملف ضروري.
والظاهر ان ربي نزل محبتي في قلب عم حسني، فقال لي: خلاص بس على شرط تساعديني.
وافقت من دون تفكير، بدأت رحلة البحث عن الملف. وبعد مرور بعض الوقت صرخت بكل عفوية «وجدتها.. وجدتها» وكأني « أرخميدس زماني» وذلك لشعوري بأنني اقترب من تحقيق الهدف الحلم.
المشهد الثالث:
البرادي الحمر وورق القصدير
أمسكت ملفي بكل فخر وسعادة، كأنني حصلت على ملك «المعتمد بن عباد» وتوجهت إلى مكتب المخلوق العجيب الذي أمرني بالنزول إلى السرداب لاستخراج الملف. ولله الحمد كان الباب مفتوحا إشارة إلى أنهن انتهين من وجبة الفطور العامرة.
دخلت الغرفة التي كانت تكتظ بالموظفات ورائحة البصل والمخلل، ووقفت انتظر أن تنظر احداهن إليّ لأنهن كن في قمة نقاشهن المصيري حول دراريع رمضان والأسعار التي بدأت ترتفع، وانشغالهن بجهاز البلاك بيري في أيديهن.
تعمدت أن أخرج مرة ثانية وأن اقرع الباب هذه المرة بشكل لافت. وفعلا جاءت هذه الخطة بنتيجة معهن، فقالت لي احداهن: نعم.. خير. فتوجهت لها. وبعد الاطلاع على الملف والورقة، قالت: هذي عند جميلة.
سألتها: وأين هي هذه الجميلة؟
فأشارت بإصبعها نحو الكائن البشري الذي كان يفترس الصمونة قبل بضع دقائق. فتوجهت إلى جميلة الجالسة وراء المكتب المقابل في الغرفة نفسها. قالت بعد التمحيص: أنت. روابي اللي تكتبين بالقبس؟
فقلت لها على وجه السرعة «لا»، خوفا منها، فربما كتاباتي لا تروق لها وانا بأمس الحاجة لعطفها وحنانها. فقالت: حسبالي! أجبتها: تشابه اسماء طال عمرج.
دققت جميلة في الأوراق ووقعت على أنها دققت عليها، واعطتني ورقة صغيرة اتوجه بها إلى الدور الثاني غرفة 5، لاستخراج الورقة المطلوبة، ثم الرجوع إلى جميلة الجميلات لكي تختمها ويوقعها المدير.
فعلا توجهنا إلى الطابق الخامس قاصدين غرفة 5، لكننا صدمنا بأن غرفة 5 خطيرة، اذ يوجد عند بابها عشرات الرجال واقفين مكسوري الخاطر، لأنه علقت لافتة على بابها مدون فيها «ممنوع دخول الرجال».
سألت صديقتي: هل غرفة 5 دورة مياه للنساء؟ (يعزكم الله). وبعد التدقيق تأكدت أن غرفة 5 مكتب وليست دورة مياه، وذلك من خلال بابها ومن شباكها الذي تغطيه ستارة حمراء، كأنها غرفة نوم وليست مكتبا رسميا في مجمع وزاري كبير.
سألت احد الأخوة الواقفين عند الباب: هل هناك أحد في الداخل؟ فأجاب: الموظفات.. لكنهن لا يفتحن الباب.
طرقت الباب وبعد تكرار الطرق، أطلت علينا إحداهن وهي تفتح الباب ربع فتحة، وتقول: نعم؟
قلت لها: لو سمحت أحتاج إلى استخراج احدى الشهادات من هذه الغرفة. فقالت: نطري شوي.
ودخلت مرة ثانية وتركتنا نقف مع اخواننا الرجال في الخارج.
لا اخفي عليك امرا عزيزي القارئ انني كنت واقفة مع اخواني الرجال وكلي خوف ورهبة من أن يلمحني أحد اعضاء لجنة الظواهر السلبية المعادين للاختلاط، ويقوم بتطبيق الحد علي، فأخذتها ذريعة لطرق الباب مرة ثانية. وبعد خمس دقائق فتحت لي موظفة ثانية وبالطريقة نفسها، من خلال ربع فتحة الباب. قالت: نعم؟ فأعدت لها الإسطوانة، فقالت: انزين نطري علشان نلبس حجاباتنا ونقابنا ونفتح الباب.
وبكل رباطة جأش وجلد وصبر انتظرت، كما ينتظر الكثيرون خارج هذه الغرفة، حتى تتكرم الموظفات بفتح الباب بعد تعديل ورداتهن المنفوشة وتثبيت قواطي الروب على رؤوسهن، ولبس الحجاب والنقاب. وبعدها فتح الباب ودخولنا، كان منظرنا يذكرني بمقدمة «افتح يا سمسم» عندما يتنهد الأطفال على الباب.
وحتى لا أدخلك بتفاصيل مملة اكثر ابشرك عزيزي القارئ بأنني حتى كتابة هذه الأسطر لم أخلص معاملتي التي تحول بيني وبين تحقيق حلمي، والسبب تقاعس وتكاسل الموظفين العاملين في هذا الصرح الكبير.
آخر الكلام
سؤال بريء وبسيط: أنتن يا من تضعن لافتات على المكاتب «ممنوع دخول الرجال»، وتنزعن حجابكن ونقابكن داخل المكاتب، أين تحسبن أنفسكن؟ أنت يا من لا تريدين الاختلاط بالرجال بسبب حياء أو بسبب غيرة زوج أو تزمت أب أو أخ، لماذا لا تقبعين في البيت.. أبرك لك ولنا؟ وأنت يامن تقفلين الباب في وجه المراجعين لكي تطلقي العنان لشعرك بالتنفس من الحجاب والنقاب، هل تحسبين أن غرفة 5 أو غيرها هي بيتكم؟
أتمنى أن يتزحزح السادة الوزراء والوكلاء عن عروشهم وينزلوا إلى أروقة المجمع لمشاهدة العجب العجاب، ويضعوا أيديهم على مراكز الخلل التي يعانيها المواطن بسبب تصرفات طائشة لبعض الموظفين والموظفات.
وأخيرا أقول لكم «مبارك عليكم الشهر».