روابي البناي
صبحكم الله بالخير والكرامة والسعادة، عسى صباحكم اليوم وكل يوم يكون مليئا بالنجاح والتفاؤل والحب والطمأنينة، بداية أسبوع جديدة جميلة مثلكم أحبائي.
في البداية أحب أن أوجه كلمة إلى كل أم، وأضع ستين خطا تحت كلمة أم، وأقول لها الله يعطيك العافية والصحة والقوة، فهذه فترة اختبارات وهي دائما تكون فترة عصيبة تبدأ معها حالة طوارئ للأمهات اللاتي يضعن مستقبل أبنائهن نصب أعينهن، لذلك اسمحن لي بأن أقف لكن وقفة إجلال واحترام على عطائكن وإن شاء الله لا يضيع تعبكن.
أما كلمتي الثانية فهي لشباب الغد، لأبناء الكويت الذين هم في طريقهم الآن لأداء اختباراتهم، فأقول لهم الله يوفقكم وتحصدون ثمرة تعبكم، وأعلموا أنكم السواعد التي ستبنى بها الكويت لتكون في مصاف الأمم المتقدمة.
موضوعي اليوم تكملة لموضوع تطرقت إليه منذ عام تقريبا، وهو خاص بزيارة ليلية قمت بها إلى البيت الأبيض الكويتي كما أطلقت عليه، ولمن لا يعرف مجمع دور الرعاية التابع لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، كشفت فيها الإهمال واللامبالاة التي تطغى على هذا المبنى.
وحتى لا نظلم أحدا ولا نقول إننا لم نعط المختصين الوقت الكافي للعمل ولتصليح ما أفسده الدهر، تركنا هذا المبنى عاما وأكثر، وقمنا مرة أخرى بزيارة خاطفة، ليلية أيضا على طريقة أفلام «هتشكوك»، وكانت المفاجأة أن الوضع على ما هو عليه، يعني كأننا كنا «ننفخ بجربة مقضوضة»، لكن من منطلق حرصي على بقاء معالي الوزير العفاسي الذي أتلمس فيه روح الإصلاح والشفافية بالتعامل، حرصت على نقل ما رأيته أثناء هذه الزيارة، لعل وعسى في زيارتنا السنوية الثالثة يتم تصليح شيء.
تسيب أمني
المبنى كما يراه كل من يقصد دوار الأمم المتحدة، مجمع ضخم أبيض كبير مزين بالأعلام وشكله جذاب من الخارج، لكنه للأسف خرابة من الداخل، لأن الأخوان في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، الله يهديني وياهم، وضعوا كل ما أتاهم الله من قوة وإبداع بالاهتمام بالشكل الخارجي لهذا المجمع الذي يضم في طياته شريحة خاصة بالمجتمع ومن مختلف الفئات العمرية، ولا أقصد بشريحة خاصة أنها منبوذة (لا سمح الله) بل إنها تحتاج إلى رعاية خاصة نظرا الى تعرضها للظلم البشري من قبل والدين تجردا من أسمى معاني الحنان والحب، ورميا فلذات أكبادهما، لكن تبقى الكويت حكاما وحكومة وشعبا مرتعا للخير والطيبة، لهذا تم إنشاء هذا المجمع الضخم.
طبعا ليس مصرحا للعامة دخول هذا المجمع، خاصة في وقت متأخر من الليل. وقد حرصت على أن أذهب ليلا حتى أتأكد من أن طيور الجنة وضعوا في سرائرهم، وأن الفتيات القاطنات في هذا المجمع يستمتعن بمشاهدة التلفزيون في مكان آمن بعيد عن ذئاب الشوارع.. لكن ما كل ما يتمناه المرء يدركه تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن. فالمكتوب اتضح من عنوانه، إذ ما زال مسلسل التسيب الأمني «مكانك راوح» فسيناريو العام المنصرم عاد بالجمل نفسها، لكن باختلاف عامل الأمن الموجود داخل الكشك الأمني الذي يكتظ بصوت المطربة الشعبية التي تغرد وتقول «وأخيرا تجوزت ومحدش له عندي حاجه».
الصراحة وضع كشك الأمن هذا أخذني الى أجواء قهوة الفيشاوي بحي الحسين المصري. ونظرا الى انهماك عامل الأمن بالأغنية، اكتفى فقط بالنظر إلى السيارة ليتأكد أن من يوجد فيها فتيات وليس رجالا، لكون رجل الأمن هذا يتماشى مع الشريعة الإسلامية ومع تعاليم لجنة الظواهر السلبية بمنع الاختلاط، وغاب عن مخيلته أن هناك الكثير من الألاعيب التي يستطيع أن يتقنها الشباب للدخول.
عبرنا بوابة الدخول بسلام من دون أن يسألنا احد عن سبب مجيئنا في هذه الساعة المتأخرة وعن أسمائنا أو حتى الإطلاع على هوياتنا. وهنا تأكدت أن وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل تتعامل بكل شفافية وثقة مع المواطنين.
مشهد مكرر
لله الحمد أنني أتمتع بذاكرة قوية (قولوا ماشاء الله)، يعني مازالت طرقات ودهاليز هذا المجمع عالقة بذهني منذ تاريخ آخر زيارة أي منذ سنة وأكثر. ومن المؤسف أن المنظر يعيد نفسه، فالأشجار المتهالكة والأخشاب المتناثرة لا تزال موجودة، والشيء الجديد الذي طرأ على هذا المجمع هو بناء حائط كبير يحجب قسم الأطفال والرضع عن باقي الأقسام، وهنا تملكني شعور بخيبة الأمل لعدم تمكني من الوصول إلى مبتغاي للاطمئنان على حالة الأطفال.
لكن بفضل الأخت الفاضلة التي كانت معي، والتي كانت إحدى نزيلات هذا المجمع ولكنها تزوجت وخرجت الى الحياة الخارجية، تمكنت من دخول أحد أقسام الأطفال الذي كانت تفوح منه رائحة دهن جوز الهند المحزر التي «تقمت» الرأس، وتوجد فيه اثنتان من عاملات النظافة من فئة المصارعين الأكثر شهرة في العالم (فيدر وأندرتيكر) تدخلان الرعب في قلوب من يراهما، وهنا أحسست بالشفقة أكثر وأكثر على هؤلاء الأطفال الذين كتب عليهم أن يلازموا هذين الوجهين طوال اليوم.
لكن على الرغم من شراستهما وضخامتهما إلا أنهما لم تتفوها بكلمة واحدة ولم تسألا عن سبب وجودنا معهما بالقسم المحزر، ولم تكترثا لعلامات الاستغراب التي ارتسمت على محياي عندما رأيت الأطفال مستلقين على الأرض بصالة القسم، فسألت الأخت الفاضلة التي كنت بصحبتها: «ما في سراير علشان ينامون عليها الأطفال؟»، فأدخلتني إلى الغرف الداخلية في القسم، وكل غرفة مقاسها 4X4 وفيها سرائر رصت جنبا إلى جنب، وتفتقر الى أبسط مظهر من مظاهر الصحة وهو التكييف، إذ ان الغرفة كانت حارة جدا، ورائحة الدهن المحزر طاغية تماما على الجو العام فيها، هذا بالإضافة إلى الأرضيات المتشققة والمتحفرة، التي تسبب إرباكا وعرقلة لحركة الأطفال الذين يقطنون الغرفة.
فسألت «أندرتيكر الشؤون»، أقصد عاملة النظافة: ألا يوجد في القسم مشرفة أو ممرضة لكي تشرف على وضع الأطفال؟»، فقالت العاملة بصوتها الأجش وعينيها المتقلبتين: «أبلة مو موجودة راحت شوي وترجع، وبعدين ماكو أحد مريض كله زين، ليش سستر؟».
فأجبتها: «صح كلامج كله صح طال عمرج ليش سستر؟؟ وسلّ.مي على الأبلة وقولي لها الله يعطيها العافية».
أقسام البنات
خرجنا من قسم الأطفال متجهين إلى قسم البنات، أو بالأحرى الفتيات الأكبر سنا يعني «اللي غادي شرهم». وتعمدت أن أذهب بنفسي الى هذا المكان لكي أتأكد من صحة المعلومات التي أدلت بها احدى الأخوات من قاطنات هذا المجمع عبر احدى القنوات التلفزيونية، واشتكت من الحرمان والقرارات الحازمة المطبقة عليهن في مسألة الدخول والخروج، وأنهن يفتقرن الى أبسط وسائل الحياة الترفيهية.
قبل دخولنا القسم الثاني من المجمع، الخاص بالبنات، يوجد هناك كشك صغير به رجال أمن، ولكن هذه المرة كانوا متيقظين أي من فئة «ها مين هناك؟؟». فسألني أحدهم «على فين؟». وهنا تكلمت الأخت الفاضلة التي كنت بمعيتها، فتعرف عليها رجل الأمن لكونها كانت احدى قاطنات هذه الدار، وعلى الفور سمح لنا بالدخول.
بدا المكان كأن قدما لم تطأه منذ عام، وحددت فترة عام لأنها الفترة التي مضت على آخر زيارة لي لهذا المكان. فالذي يريد أن يعيد الأطلال والذكريات أيام بيوت أم صدة وشرق، عليه الذهاب الى هناك. فالمكان بيت عربي كبير توجد على جوانبه غرف متلاصقة وساحة كبيرة تتوسطه، ومن إحدى الغرف كان صوت المطربة وردة الجزائرية يصدح بأغنية «في يوم وليلة»، تصاحبها صفقة ودندنة عالية. قالت لي مرافقتي «هذه غرفة المشرفة المسؤولة عن البنات.. الظاهر أن الطرب خذاها شوي».أجبتها: «لنتحرك بسرعة علشان لا تشوفنا وتمنعنا من الدخول لكونها المشرفة المسؤولة». فضحكت وقالت: «روابي الله يخليج هذي نروح ونشوف ونرجع بيتنا ونام وهي ما تحركت من مكانها».
دخلنا وكان الوضع هادئا جدا لأن ساكنات الأقسام منقسمات الى نصفين: نصف يغط بسبات عميق والنصف الثاني لا يزال خارج أسوار البيت الأبيض.
الوضع العام للمكان كان بمنزلة فندق مصنف من فئة الخمس نجوم، فيه جميع وسائل الترفيه الحديثة (تلفزيونات LCD وPlaystation ،DVD)، وغيرها من الأمور الترفيهية، علاوة على أنه تم تجهيز هذه الأقسام من أحسن دور تأثيث المنازل وأرقاها بشكل هندسي جميل وألوان جذابة متناسقة، الأمر الذي جعلني أستغرب كلام هذه الأخت التي خرجت بالتلفزيون تشتكي سوء المكان الذي يعشن فيه هي وأخواتها، وتشتكي حرمانهن من الخروج، والتدقيق عليهن في كل شاردة وواردة.
أين الرقابة؟
لكن ما دعاني الى الاستغراب أكثر عدم وجود حسيب أو رقيب على البنات، لأن بعضهن كن يمشين أمامنا ويحملن حقائب كبيرة تدل على أنها حقائب ملابس. وعندما سألتهن سؤالا الأخت التي كنت معها عن وجهتهن قلن: «بنروح الشاليه عند صديقاتنا معزومين».
وانا أتساءل: أين الرقابة على هؤلاء البنات؟ لماذا هذا التسيب؟
فهؤلاء البنات لم يخترن أن يكن في هذا المكان، ولم يخترن أن يكن بهذا الوضع؟ فلماذا نشعرهن بأن لا قيمة لهن في الحياة؟
من وجهة نظري عندما يترك الإنسان من دون حسيب أو رقيب، أو من دون أن يشعر بوجود أحد يخاف عليه ويسأل عنه كأنه «نكرة»، فهذه أولى خطوات الانجراف نحو الخطأ. فالوسطية مطلوبة، أنا لا أقول اغلقوا عليهن الأبواب حتى لا يشعرن بأنهن يعشن في سجن.. لكن الحذر والحيطة مطلوبان.
نداء للأب وليس الوزير
كما ذكرت إنني أبارك خطواتك الشفافة بالكشف عن الخطأ الفادح الذي تزخر به هذه الوزارة التي كلفت بها من قبل سمو رئيس الوزراء، والذي هو ونحن على يقين بأنك كفء لحمل هذه المسؤولية وهذه التركة التي تزخر بالعديد من الفضائح والتجاوزات والأخطاء، وأقولها لك بكل صراحة يا معالي الوزير «ترا الشق عود»، ويجب ان ترى بنفسك لأنك ستحاسب أمام الله سبحانه وتعالى، لكون أن هذه الفئة من قاطني هذا المجمع برقبتك، وانت تعتبر أبوهم.
أتمنى أن تكون لك زيارات مفاجئة ليلية لهذا المجمع لكي ترى بعينك ما رأيت، وأتمنى أيضا أن لا تعتمد على بطانتك التي تردد لك دائما «الأمور على مايرام»، فكما قلت لك «ترا الشق عود». وأتمنى منك يا معالي الوزير أن تستعين بخبرات رجال ونساء الكويت الأفاضل الذين تقاعدوا من عملهم، ولهم باع وخبرة في مجال التربية، فهم أكثر الناس حبا ووفاء لهذا البلد وأبنائه. فلماذا لا تتم الاستعانة بالموجهين والمدرسين الأفاضل الذين كانت لهم بصمات واضحة في المسيرة التعليمية والتربوية بالكويت كمنيرة النصف، ولطيفة البراك، وغنيمة المدير، وعواطف الختلان، وغيرهن من الأسماء التي لا تحضرني حاليا.
كلمة أخوية لقاطنات المجمع
أحب أن أهمس بكلمة أخوية في أذن أخواتي قاطنات هذا المجمع، فأنتن أخواتنا وبناتنا وحالكن من حالنا. فعندما تخرج احدى الأخوات (الله يهداها) عبر احدى القنوات الفضائية، وتتحدث بشكل غير حضاري وتقول بأنها مطلوبة ومديونة ومهددة بالسجن، وعلى الوزارة أن تدافع عنها وتدفع مبلغ المديونية التي عليها لأنها ملزومة منها، اقول لها: اولا اختي الفاضلة عندي سؤال أتمنى أن تجيبيني عليه أنت ومن يقف وراءك، سواء المحامي الذي يريد ان يتخذ من قضيتك شهرة له، أو القناة التي أخذت تهول وتكبر الموضوع بهدف استغلال قضيتك لكسب أكبر عدد من المشاهدين، والسؤال هو: من الذي دفعك لكي تقترضي؟ ومن الذي دفعك بأن تستداني؟ هل الوزير؟ هل الوزارة؟
فأنت كما ذكرت شابة بالغة يافعة لا يستطيع أحد ان يضحك عليك، أي انك قمت اقترضت بمحض إرادتك، فلماذا تطلبين اليوم من الوزير أن يقوم بتسديد المبلغ الذي وضعته بمحض إرادتك على كاهلك؟ هل هذا عدل؟
أنا لا أقول إن دور الرعايا لا يوجد فيها تجاوز، بل على العكس هناك الكثير من التجاوزات والفساد بهذه الدار، لكن هناك كلمة حق لا بد ان تقال، فوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وأقولها وأنا مساءلة أمام الله سبحانه وتعالى، لم تقصر من ناحية المادة أو تسهيل المعاملات على بناتها، لأنني على معرفة شخصية بمجموعة كبيرة من البنات التابعات لهذه الدار يصرف لهن مبلغ شهري، بالإضافة إلى مبلغ في المناسبات والأعياد، هذا غير التموين الكامل لأسرهن، وإقامة مآدب الغداء والعشاء في أحسن مطاعم الكويت. فلماذا النكران؟ نعم هناك خلل بمسألة النظافة والأمن والإشراف داخل المجمع، لكن من ناحية الحياة المعيشية والمادية فأنا لا أتفق معهن بتاتا.