كتب : خالد الشرنوبي
الميلاد كان بالرياض ، والنشأة كانت بكفر الدوار ، والإنفتاح كان بالاسكندرية ، والنضوج كان بالقاهرة
من هو ؟ .. ، شابٌ بلغ عامهُ الثاني والعشرين ، من يرهْ يرى رجلاً طلَّق الدنيا ،مَلْبَسَهُ لا يليق بشابٍ من الطبقة الفضية ؛ والطبقة الفضية هي الطبقة الوسطى ، خلفها طبقتان هما الحديدية والنحاسية ، وأمامها طبقتان هما الذهبية والماسية ..، فالحمد لله الذي جعل مسواه مسوىً مُعتَدِل، ولكن الفتّى تبدو عليه آثار صدأ الحديد ، وكان المُرْتَقَب أن نجد عليه نضارة الفضة ونصاعتها .
آهٍ من ذاك الفتى العجيب الذي تربَّى في كفر الدوار.. بلدٌ صغير .. ولكنه كبيرٌ بحكاياته .. مليء بمدارس الحياة .. اختباراته في مادة الحياة مُعقَّدة .. من يجَتَزْها فهو أهلٌ لأن يُسافر إلى دنيا الكبار ، وأهلٌ ليتعامل مع الوحوش دون أن يهابها .. ، والحقيقة أن الفتى اجتاز الاختبار ودفع الثمن .. ، دفع الثمن سنوات من عمره قضاها في مهالك كادت أن تُودِي به إلى الجحيم ، لولا رحمة الله وحِلمِه الذي غرَّهُ .. مضائق حَبَسَتهُ ولكن فَرَّج اللهُ .. مصائب حلَّت به ولكن أغاث اللهُ .. كوارث ألمَّت به ولكن أعان الله .. والفتى لم يتعلم ، ولم يتُب ، ولم تُثخنهُ الجروح .
الإنطلاق إلى القاهرة .. كان بمثابة حكم النفي الإلهي .. والقاهرة هي المَنفى .. قطعوني فجأة من بيئتي .. من أصدقائي .. من ثقافتي .. قطعوني من مطواتي .. من عِراكي .. من غضبي .. ، عزلوا جسدي عن كفر الدوار ، أما روحي فناضَلَت قدر الامكان ، ولكن سرعان ما أسقطتها ضجيج القاهرة ، فوقعت في شٍراك “القاهريين” .. وسقيتُ روحي من ثقافة القاهرة .. وعرَّفتُ أُذني على أُناسٍ لم تسمع بهم في ” الكفر الحجري ” !! .. عرَّفتها على الشيخ عبد الحميد كشك .. وعلى أبي اسحاق حجازي الحويني ، وعلى الدكتور مصطفى محمود ، وعلى عشرات الأعلام في الدين وشتّى العلوم .. ؛ عاندتني – في البداية – قليلا .. لأنها كانت أعجمية لا تفهم غير لغة “بحر أبو جريشة” وأغانيه .. ولكن بعد ذلك طاوعتني حتى أتقنت العديد من اللغات الجديدة ، بل وأخذت في نسيان لغتها الأم القديمة !
بعد أن أطاحت القاهرة العنصرية بكل ما برأسي ، ووطَّنَت ثقافتها مكان ما طَوَّحت به .. أصبحت هي وطني ، وليست غربتي ..، وأصبحت لا أعترف بميلاد الرياض .. لأن ميلادي الحقيقي كان بالقاهرة .. وسِنٍّي الحقيقي يُعَد منذ ميلادي الجديد .. وحياتي قبل القاهرة كِدتُ لا أتذكر منها يومين .. وصورتي وشكلي أيام الكفر الحجري لا أعرفها .. لكن تُوصَف لي !
فأصبحت غريباً عن نفسي القديمة ، ولكني قد أتعرَّف على بعض الملامح في وجوه شباب الكفر ، فهناك الجميع مُتَشَابهون .. حياتهم معروفة .. تصرُفاتهم مُتَوَقَعة .. فأرى صورتي في وجوههم .. تشبهني تماماً .. لكنها ليست أنا .. هي صورة مُزيفة .. لا تُمَثٍّلُني الآن !
أما شباب الكفر فهم لا يعرفوني .. لا يرون فيّ شبهاً منهم .. ويَعُدُونني غريباً عنهم .. سائحاً جاء لِيَمضِي
وإن سألتهم عن شابٍ اسمه خالد الشرنوبي .. قالوا لك : إنه سافَر ولم يَعُد .. أو مات .. أو قُبِضَ عليه .. أو غرَقَ بالمحمودية ، والأغلب إنهم لن يردوا عليك ظناً منهم إنك مُخبِر من البوليس !