كتب : ماجد جريشه علي
منذ خلق الله الارض ومن عليها والانسان يعيش ضمن جماعات ، وعشائر ، وقبائل ، ودول ، وممالك ، وكل مجتمع من هذه المجتمعات وضع لنفسة مبادء واحكام وقواعد تحمي وجوده وتحافظ على كيانه مع اختلاف هذه الاحكام بختلاف الاهواء والمشارب .
حتى جاء الاسلام: فصاغ لاتباعه ، بل للعالم أجمع ، مبادء من نور ، ومنهج حياة أصبحت في ظلة “الظعينة” تَرتحل من اليمن حتى تطوف بالكعبه لاتخاف على نفسها .
وقد يظن ظان : أن الانصياغ لهذه الاحكام كان بسبب صرامتها وشدتها ، وقد يقول مسلم يغارون على حرمت هذا الدين ان الحُدود يجب ان تُنفذ بهذه الفكرة ، وأن تكون الحدود سيف يلاحق كل عاص وأن تنصب بلا هواده على كل من تسول له نفسه التفكير في المعصية ، وان القاضي يجب عليه ألا يتساهل أو يتباطء في إقامة هذا الحد وألا تأخذة في هؤلاء رأفة ولا رحمة ، وألا يقبل لهم دفاعن ، ولا يسمع لهم حجه – ظانا انهم لا يحق لهم ذلك – وقد يتهم القضاة بالضعف اذا أَظهروا غير ذلك تجاة المتهم .
وفكرة التشدد في اقامة الحد تولدت في أذهانهم من خلال غيرتهم على حُرُمات الله ولكن لا تكفي هذه الغيرة بمفردها للتطبيق شرع الله بل يلزم مع هذه الغيرة العلم باحكام الشريعة ومقاصدها حتى تكون غيرة محمودة .
وقد يستدل هؤلاء بأحاديثٍ النبي صلى الله عليه وسلم التي حَفِظوا نصوصها وغاب عنهم مقاصدها ومن هذه ألاحاديث : ما روى أحمد ، وأبو داود ، وصححة الحاكم عن حديث أبي هريره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
} من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فهو مضاض لله في امرة {
وغيرها من الاحاديث .
وهم في هذا لاستدلال قد جانبهم الصواب ذلك انه يلزم قبل اقامة الحد معرفة : طريقة اثبات هذه الجريمة ، ونسبتها الى شخص مرتكبها ، ثم بعد ذلك البحث عن أسباب العفوا ومسقطاط الحد ، والشبهات القائمة حول اقامت هذا الحد ، ثم بعد ذلك يبدأ الحديث عن تنفيذ الحد .
وهذا يتضح من الحديث الذي رواه ابن ماجة عن حديث ابي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم } ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا {
وما رواه الترمزي من حديث عائشة قالت : قال : النبي صلى الله عليه وسلم
} إدرؤو الحدود عن المسلمين ما استطعتم فان كان له مخرج فخلوا سبيله فان الامام لان يخطئ في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة {
ولا تعارض بين هذه الاحاديث وما سبقها ذلك ان التشديد وعدمه يتعلق بطريقة إثبات التهمة كما سنوضح فيما يلي -وقبل ان نتناول الشرح-
نطلب من القائلين بتكبيل المتهم ، والاخذ على يديه ، وعدم الاستماع الى حجته ، وتحريم الدفاع عنه , أن ينتبهوا لنا دقائق.
كما نطلب من الحاقدين على الشريعة الاسلامية ومتهموها بالهمجيه والتخلف ان يعقلوا معنا ولو لدقيقة :
من الاصول الثابته في الشريعة الاسلامية أن “الحد” يثبت بأحـدِ أمرين :
أولهما : البينة (الشهود) وثانيها : الاقرار (الاعتراف)
والحديث عن طرق الاثبات امر هام حيث تتحدد بموجبها ظروف إقامة الحد ، فاذا ما ثبت “الحد” بالشهود واكتمل نصاب الاشهاد القانوني له ، واجتمعت في هؤلاء الشهود الشروط ، وكانت شهادتهم جازمة لا يتخللها شك أو احتمال ، ولا توجد لدى هذا المتهم شبهه ، كشبهت الملك مثلاً – كأن يدفع المتهم امام القاضي بأن الاموال التي افاد الشاهدين انه سرقها ملكا له ، أو يدفع من شهد عليه أربع رجال عدول أنهم رأوه في خلوته التي يقيم فيها يواقع سيدة وقد شهد الاربعة بحدوث المواقعة واكتمال فعل المواقعة ، وعند القاضي افاد : بانني دخلت خلوتي والتي لا ينام بها الا زوجتي فوجتها نائمة فوقعت عليها ولم يتضح لي أن النائمة هي صديقة زوجتي التي جاءت لزيارتها الا بعد ان انتهيت ،، فهذه شبهات لا مجال معها لاقامت الحد ولو تم الاثبات بالبينه الكامله-.
فاذا ما ثبت الحد وثبوتت التهمة وإنتفت الشبهه فإن التشديد في اقامت الحد هنا من ضروريات الحفاظ على المجتمع فلابد أن يعيش الانسان أمناً على عرضة ، وماله ، ودمه ، فان العفو عن متهم قام بفعلته وتمكن عدد من الناس من مشاهدته يحد فتنه وإشاعة للفاحشه ، ومن هنا كانت أحاديث التشديد في اقامت الحد .
اما الاقرار : وهو اعتراف الجاني بإرادته باقترافه ” لحد ” ما فنجد أن المنهج النبوي اختلف تمام الاختلاف في التعامل مع المتهم ،، فقد روى احمد وابو داود والنسائي ، ان النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بلص ( اعترف ) وليس معه متاع ، قال: النبي صلى الله عليه وسلم } ما أخالك سرقت {
كما نجدة صلى الله عليه وسلم يُعرض عن المعترف بالزنا اكثر من ثلاث مرات ونجدة في بعض الاحيان يلقنه حجته بقولة ،، لعلك كذا ،، أو لعلك كذا.
بل ان السلف ندبو للقاضي ان يُلقن المعترف حجته فقال : عطاء كان من قضى يؤتى اليهم بالسارق فيقول : أسرقت ؟ قل : لا . وذكر عطاء عن عمر رضي الله عنه كان يفعل ذلك فقد أُتي له برجل سرق فسأله عمر أسرقت ؟ قل: لا . فقال : الرجل لا . فخلّا سبيله . وعن أبي الدرداء أنه ، أُتي له ، بجارية سرقت فقال: لها أسرقتي ؟ قولي: لا فقالت: لا . فخلّا سبيلها.
والله انه لمنهج رباني حكيم لا تخالطه أهواء بشريه أو مصالح شخصية ، حيث يهدف الى الحفاظ على المجتمع في الحالتين سواء ماذكر عن التشديد في موضع يستحق الحذم أو ماذكر عن العفو والتسامح في موضع لا يصح معه الا ذلك .
ولم تهدف الشريعة الغراء من ذلك سوى الحفاظ على المجتمع فلا يمكن الحفاظ على مجتمع تقام فيه الجرائم عياناً يطلع عليها الناس ويُشاهدوا مرتكبها ، ثم يتحدث جاهل عن رافة أو رحمة ؟ .. اي فساد يعم هذا المجتمع بعد ذلك .
كما أنه : من الحفاظ على المجتمع التستر على جريمة لم يعلم بها احد ولم يُبَلغ عنها احد.
فهل بعد ذلك يمكن لحاقد أن يتهم هذا المنهج بالتخلف أو الهمجية ، واذا ما تعلل بعضهم بقسوة هذا الاحكام ووحشيتها فلينظر هؤلاء على مدار ثلاثة عشر عام قضاها النبي صلي الله عليه وسلم بالمدينة ، أقام فيها دولة ، وسن فيها منهج حكم ، فكم “حد” أُقيم على مدار هذه الفترة وكم مُزنب عُوقب وكم حرمة أُنتهكت .
ولينظر هؤلاء في أيً مجتمع من المجتمعات التي تطبق القوانين الوضعية :
فكم لديهم من المتهمين في السجون وكم امتدت فترة سجنهم ، وكم شخص عاد الى السجن بعد خروجة ، وكم أَخرجت هذه السجون لمجرمين تعلموا فيها فنون الاجرام ، ومع هذا الكم من المسجونين هل عاشت هذه المجتمعات في أمان .
فأي رُقي وأي رحمة وأي حزم يتصف به هذا المنهج السماوي الذي ارساه محمد صلى الله عليه وسلم ، وظل يُعلم اصحابة ويحثهم على الالتزام به حتى عند موته صلى الله عليه وسلم فنجدة في حجة الوداع يوصي اصحابه ويعدد عليهم الحرمات حرمت الدين والعقل والدم والمال والعرض ، ويحثهم على الفضائل ويوصيهم والامانه .
“فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ”