جريدة القبس : 23/4/2009
كتب : خليفة مساعد الخرافي
موحشة كئيبة بلونها الرمادي القاتم، لا يتناسب تصميمها مع البناء الحديث والتصميم الجميل لمبنى الادارة العامة لأمن الدولة، بتصميمها وطريقة بنائها اقرب الى الغرف في البيوت العربية القديمة، فيها بيت خلاء لا يصح ولا يرقى ان يسمى حمّاما، وان كان فيه ماء بارد وماء حار، وهما بيتا خلاء وليسا واحدا.. يسترك عن بيتي الخلاء حاجز جداري طوله يزيد قليلا على المتر، فحين تأخذ دشا يظهر جسمك الاعلى، اما اثاثها فلا يتعدى سريرا معدنيا وتتداخل الصالة مع بيتي الخلاء مع غرفة النوم.. الجميع مفتوح على بعضه وليس لبيتي الخلاء باب، اما المساحة فهي فسيحة 10×6م وهي مكيفة والحمد لله، لها باب حديدي له صرير مزعج لا يفتح الا بتحريك يدة القفل فيخرج صوت فرقعة مدوية يوقظ النائم ويقرع الغافل، وفي الباب فتحتان صغيرتان العليا 15×15 سم للتحدث والاخرى سفلية 20×20 سم لتمرير الوجبات وتسمى هذه الفتحة او النافذة الصغيرة جدا في اللغة العربية «كوة»، وحين يتم تركهما مفتوحتين، او احداهما، تشعر بشعور طيب ومريح ويطبق عليك صمت رهيب يجثم على صدرك لا يفرجه سوى ذكر الله، وفي اعلى الجدار بقرب السقف تم وضع كاميرتين لمراقبة جميع الحركات والسكنات على مدار الساعة، والاضاءة فيها لا تطفأ ليلا ولا نهارا، هذا وصف الزنزانة رقم 18 في معتقل امن الدولة في جنوب السرة. التي كان محجوزا فيها النائب السابق والزميل والصديق والاخ د. عبدالمحسن جمال والتي كتب عليّ ان اكون معتقلا فيها، ولا يبدد الصمت الطويل الا حين يأتي موعد الوجبات الغذائية فيطل علي العامل البنغالي ذو السحنة الداكنة واللحية الرمادية بلون الزنزانة، وحين اردت التحدث معه سائلا عن اسمه نهرني بصلافة وجلافة صارخا «في امن دولة ماكو كلام»، فأجبته لماذا انت غاضب؟ فأجابني: بس خلاص ماكو زايد كركر.
الحقيقة بط چبدي بس ما اقول الا الشكوى لله، فأنا منذ ايام معدودة معزز مكرم في منزلي مالي من الشيطان طريج وكنت مسترخيا اشاهد قناة «سكوب» الفضائية التي تديرها الاعلامية الناجحة الاستاذة فجر السعيد، وهي بالمناسبة بنت عمي لانها تميمية من قبيلة تميم، وان كنت اعلم، لا هي ولا انا تحركنا النزعة القبلية. ولكون الاعلام الحديث قائما على الاثارة وعلى السبق ويعتمد كثيرا على المواضيع المثيرة للجدل، ونجحت قناة سكوب في هذا المجال فاستضافت معظم السياسيين والاعلاميين، وايضا بعض افراد الاسرة الحاكمة الكريمة في مقابلات اتسمت بالصراحة الشديدة جدا والتي كان لها ردود فعل قوية في الشارع الكويتي والخليجي.
وصادف وانا اشاهد قناة سكوب، التي كانت تستضيف المرشح السابق فاضل الدبوس الذي يجمع بين التلقائية والفهلوة، وفي هذا اللقاء التلفزيوني والمباشر على الهواء انتقد الاخ فاضل الدبوس ادائي في المجلس البلدي فابتسمت ولم يخطر ببالي الرد لانني لم اجد ما يستحق الرد عليه، وبعدها بفترة زمنية قصيرة جدا لا تتعدى دقائق محدودة رن هاتفي النقال وكان احد الاصدقاء الاعزاء
والذي تجمعه مع صاحبة القناة زمالة وجيرة قديمة، وهو من ابناء الجهراء البررة، من عائلة شمر الكريمة، فسألني اذا كنت راغبا في الرد، فأجبته «انني لا ارغب في الرد». ثم اتصال آخر من احد اداريي القناة طالباً مني الرد لكنني ابلغته بعدم رغبتي، وهناك تكرر على الهواء مباشرة الطلب مني بالرد سواء من مقدمي البرنامج او من ضيف البرنامج الكريم، وبعدها اتصل صديقي الجهراوي طالبا مني الرد فأجبته: سأفكر، وكثر ترداد مقدمي البرنامج المناشدة بأن ارد على الهواء، ورن الهاتف مرة رابعة وهناك حتى أنهي الموضوع، قمت بمداخلة بدأتها بحمد الله على نعمه الكثيرة علينا ككويتيين، فالاسرة الحاكمة طيبة والشعب طيب والارض طيبة كريمة، فقاطعني، بشكل مفاجئ، مقدم البرنامج الاستاذ بداح الهاجري، متسائلاً كيف امدح الاسرة الحاكمة، وانا في مقابلة في «سكوب» مضى عليها اكثر من سنة ابديت ان اسرة الصباح غير قادرة على ادارة الدولة، فاستغربت كثيراً وطلبت منه ان اكمل ردي على اتهامات ضيف البرنامج الاخ فاضل الدبوس، وبعد ردي على الاخ فاضل، اقتنع واثنى على ادائي في المجلس البلدي وكان من المفروض ان تنتهي المداخلة، لان هذا السبب الرئيسي والوحيد لها، لكن الاستاذ الفاضل بداح الهاجري كرر سؤاله عدة مرات، وبشكل متكرر قارب عشر مرات مطالباً إياي بالاجابة: هل اسرة الصباح قادرة على ادارة الدولة؟ واجبته انه في هذا الوضع السياسي المتردي، لا أسرة الصباح قادرة ولا احد قادر . وهنا تم قطع الاتصال مما انهى المداخلة، ولم اكمل اجابتي ولم احاول الاتصال مرة اخرى، لظني ان الموضوع لا يحتاج ان ارد مرة اخرى لانه امر عابر وعادي في الاعلام الكويتي، وبعدها بيوم ترددت اشاعات مبدؤها معلومات غير مؤكدة، بأني مطلوب لأمن الدولة فجهزت بيانا للرد على هذه الاشاعات، لكنني لم اقم بنشره، ولسوء الفهم عن معلومات البيان بادرت قناة سكوب بعرض مقاطع لمقابلة لي مع الاعلامي د. جاسم الشمري مضى عليها اكثر من سنة، وكان موضوعها عدم رضاي عن رغبة وزير الداخلية بتوظيف البدون في وزارة الداخلية، وكان انتقادي على اداء الوزير، وان كان فهم خطأ انه يتعلق بأفراد الاسرة الحاكمة الكرام، وحتى ارفع هذا اللبس بينت بمداخلة أنني لا اقصد ابناء الاسرة بل وزير الداخلية، واوضحت المقصود وظننت ان الموضوع انتهى.
إلا أنني فوجئت بأن أمن الدولة قادمون الى منزلي في الشامية ومعهم ضبط واحضار من النيابة العامة، والجميع شاهد رضوخنا لأمر النيابة العامة لثقتنا الكبرى بهم.
لهذا تساؤلي: كيف يحاسب مواطن على أقوال صرح بها منذ فترة أكثر من سنة؟ واتساءل واستغرب مطالبة بعض السياسيين والمرشحين بوجوب إدخال خليفة الخرافي إلى سجون أمن الدولة في مقابلة تلفزيونية قديمة جدا، وظننت انه بدخول خليفة الخرافي سجون أمن الدولة ينتهي الشعور لدى هؤلاء بأنهم فقط المطلوبون والمظلومون وهو شعور كاذب، ولماذا هم يعتصمون امام مبنى أمن الدولة لأقوال تلفظوا بها في ندواتهم هذه الأيام ويتحملون المساءلة عليها؟ ولماذا أهالي وعائلات ورفقاء وأصحاب خليفة الخرافي لا يعتصمون أمام أمن الدولة؟ السبب هو ثقتي أنا وجماعتي وعزوتي بأنني بين أيد أمينة وهم رجال الأمن الشرفاء.
إلى متى هذه الحركات وردود الفعل التي تؤدي إلى التأزيم وعدم الاستقرار السياسي واعطاء صيت سيئ وفكرة غير حقيقية عن العدل والانصاف اللذين اشتهر بهما النظام الكويتي؟
بعد دخولي مباشرة إلى مبنى أمن الدولة تم اجراء تحقيق معي لساعات من قبل ضابط التحقيق وكنيته بوعبدالله، وكان يتميز برقي المعاملة التي جعلتني أتعاون معه عن طيب خاطر، وكان يتميز بالذكاء والخبرة والمهنية العالية في التحقيق والإلمام بالقوانين ومواد الدستور والقدرة على ربط المواضيع وجرأة من دون تطاول وأخذ جميع ما يريد من اجابات من دون الحاجة إلى استخدام وسائل أخرى، وكان يجلس الى جانبه شخص آخر بلحية تماثل لحية السلف، وكان في البداية متجهم الوجه، وأعطاني شعور ما نشاهده ونسمع عنه في التحقيقات اسلوب good man bad man الرجل الطيب والرجل الشرير، فدور المحقق الشرير ان يسب ويشتم ويهدد، بينما الطيب يقدم لك سيجارة ويحضر لك الشاي، لكن بعد فترة تبين لي طيب معدن هذا الرجل الذي كنيته بوعبدالعزيز. وحين سألني الضابط المحقق معي صاحب الشخصية القوية والنظرات الحادة بوعبدالله عن أقوالي أجبته: «ينطبق عليّ المثل «تجيك التهايم وأنت نايم» بسبب حادثة منذ أكثر من سنة، كم سياسيا وإعلاميا صرح أو كتب مثل ما صرحت ومنهم بعض أفراد الأسرة الحاكمة؟»
من الأمور التي من الواجب ان نحمد الله عليها كثيرا اننا في بلد النهار، بلد حكامه الصباح، فمقارنة مع دول اخرى يحكمها حكام طغاة ويعتمد نظامها فقط على مائة عنصر امني من مخابرات، دربوا على التعذيب والتنكيل بالابرياء من الاشراف والاحرار، حيث نسمع عن قصص يشيب لها شعر الوليد، ونشاهد افلاما لا يصدقها العقل، ونقرأ الكتب المحزنة التي تروي ما يحدث في أقبية السجون العربية والاسلامية من مهانة وتعذيب، منذ العصور القديمة الى حمزة البسيوني مدير سجن المخابرات السابق في مصر، الى آخر ما تعرض له بعض فتيتنا ممن ضل سبيل الهدى ورغب في الجهاد فقبض عليه في احدى دول القمع وشاهد الويل في سجونها ومعتقلاتها.
ان ما نفخر به ليس الجمعيات التجارية الكبرى، بل ما نفخر به هو احترام حقوق الانسان وكرامته، فما دخل سياسي أو اعلامي أو صاحب فكر الى امن الدولة إلا ووجد رقيا في المعاملة، وقد خبرت ذلك سواء في ما حصل ويحصل لي ومن يزاملني في المعتقل، أو من دخل في السابق مثل الاخ والصديق والزميل السابق في البلدي والوزير الحالي د. فاضل صفر، حيث ذكر لي كيف عومل برقي كبير واحترام حين زرته أهنئه بالخروج.
ومن الامور الطريفة في المعتقل انه بعد ان تم اخذ البصمات (فيش) التقطت لي صورة في الزنزانة للملف، وقبل ان يضغط المصور الكويتي على الفلاش بادرته: ابتسم أنت في أمن الدولة.
ومن الامور الطيبة ان هناك ممرضاً فلبينياً يمر على المعتقلين والمحجوزين لفحص السكر والضغط، اما الاكل فله طعم آخر في المعتقل، فكل شيء تجده لذيذاً، الفطور صباحاً توست فرنسي مع بيض اومليت مع بطاط وعصير، وقناني المياه متوافرة والغداء أرز مبهر مع لحم وبرتقالة ورغيف، والعشاء كان دجاجاً على طريقة كنتاكي وبطاطا مع رغيف وتفاحة، ويقدمون بين وقت وآخر شايا له طعم ونكهة لذيذة، سبحان الله في المعتقل كل شيء له خصوصية ومعنى..كوب شاي، فنجان قهوة، كلمة صبحك الله بالخير تعطيك شعوراً مريحاً جداً بأنك في مكان آمن فيه على نفسك وكرامتك.
وللتعاون الكبير مع ضباط وضباط الصف والافراد الذين يشكرون على تعاملهم الطيب والسماح لي بأن اقرأ كتابا احضرته ليشرح كيفية وضع الاستراتيجيات وطرق اتخاذ القرار واساليب التنفيذ حتى تكون الولايات المتحدة الاميركية قادرة على السيطرة على العالم في القرن المقبل.
حين تكون في المعتقل يكون للحياة معنى آخر، فأنت تفتقد الكثير من النعم التي لم تشعر بأهميتها قبل الاعتقال، ففي السجن الانفرادي تشعر بالصمت والوحدة التي لا يبددها سوى اوقات تقديم الطعام من قبل البنغالي «الأكشر».
ان محنة الاعتقال وان تسجن وتحجز في زنزانة ويخيم عليك الصمت الدائم امر ليس بالهين ولا المريح، الا ان الله سبحانه وتعالى زادني قوة وتحملا، فقد زادتني ايمانا وثقة بخالقي وبنفسي وبقيادتي وبقضائي وبرجال امن الكويت وبأهلها الطيبين.
انني احمد ربي جهارا نهارا، صباحا ومساء، انني انتمي الى وطن تحكمه اسرة آل صباح الكرام. ان مهنة الاعتقال زادتني صلابة وقوة واصبح قلبي اكثر جرأة وشجاعة واقداما ليفصح لساني عن تقدير كل امر ايجابي في بلدي، وكذلك قوّتني التجربة على ان انتقد كل ما هو خطأ يوجب اصلاحه، ولا اعلم لماذا تذكرت قصائد فهد بورسلي في سجنه؟!
لقد مرت على مخيلتي ذكريات عديدة جميلة مع أهلي وربعي وأصحابي وخلاني، كما مرت على خاطري نجاحات وإخفاقات وأحلام وآمال أتمنى أن تتحقق، فلدينا بلد طيب معطاء ولدينا قيادة محبة لشعبها، ولدينا شعب يتمتع بقيم راقية ولدينا مشاريع متوقفة منذ فترة ودراسات جاهزة تنتظر من هو قادر على تنفيذها وتطوير البلد وشعبه. لقد وضحت أمور عديدة لي من خلال هذه المحنة، فإذا كانت الموالاة هي التعاون مع الحكومة لما فيه خير للبلد والشعب فأنا أكبر موال، ولي الفخر، وإذا كانت المعارضة لكشف الأخطاء والتجاوزات من قبل بعض المسؤولين أو نواب الأمة القادمين فأنا أكبر معارض ولي الفخر.
• الحمد لله، ثم الحمد لله، حيث لا يوجد لدينا زوار الفجر، بل يأتون في وضح النهار متعاونين ليس خوفا او جبنا بل عطف ورحمة، بينما في بلدان القمع يدخلون عليهم وهم في غرف نومهم فجرا ويسحبونهم من اسرّتهم.
المعتقل خليفة الخرافي من زنزانة رقم 18 – معتقل أمن الدولة (تم الافراج عنه أمس)